لعبة الحبار.. لسنا أحصنه نحن بشر “تحليل إعلامي نفسي”

شكل مسلسل “لعبة الحبار” Squid Game من إبداع وإخراج الكوري الجنوبي هوانغ دونغ هيوك، الذي كتبه العام 2009م، ظاهرة عالمية، فهو عمل درامي كوري مكون من ثلاث أجزاء، أثار ضجة عالمية كبيرة، فهو يلامس قضايا إنسانية، اقتصادية، ونفسية، ويبرز المسلسل السلوك البشري الذي يعكس صراع الإنسان بين النجاة والأخلاق، من خلال الرسالة الأساسية التي عالجها المسلسل في مواسمه الثلاث والتي يمكن اختصارها بــ ” أن العالم لعبة للحياة أو الموت، وتُجبر على الدخول في لعبة قد لا تفهم قوانينها… ولكنك مضطر للعب والمال هو الهدف الوحيد”. وهو ما اختصره اللاعب 456 الذي قال “عندما يكون لديك مال، لا أحد يسألك من أنت”.
تضمنت أفكار المسلسل الأساسية الصراع النفسي من أجل البقاء مقابل الأخلاق، ويقدم اضطرابات الهوية والاغتراب اجتماعي، ومن الناحية الإعلامية فيظهر تصدر الـ TREND، وتسليع المعاناة وظهور الصدمات الثقافية، كما تضمن المسلسل رسائل رمزية منها: نقد للرأسمالية، وألعاب الأطفال كأداة للموت، وإلغاء الملابس كتوحيد للهوية، لعبة الحبار ليس قصة مسلسل حقق نجاح عالمي فحسب؛ بل خارطة للنفس البشرية ومن لم يعتاد على مشاهد القتل والانتحار في دراما الجريمة العالمية فلعبة الحبار مرهق نفسيًا بشكل كبير.
الرمزية الإعلامية والنفسية
ضمن تأطير النظريات الإعلامية التي استخدمها مسلسل الحبار للإقناع النفسي، فقد حرم اللاعبين من خلال الحياة الواقعية من أساسيات الحياة (المال، الأمان، التقدير) وقبلوا المخاطرة بحياتهم لتحقيق ذواتهم، فاللعبة تمنحهم فرصة لإثبات ذاتهم ” نظرية ماسلو للحاجات”، ومع الدخول في اللعبة والتنافس فإنهم يخسرون إنسانيتهم حيث يصبح القتل مشروعًا فيظهر الانفصال الأخلاقي، ومن كان يرفض القتل في البداية أصبح مع مرور الوقت مستساغًا مقبولاً.
حقق المسلسل وعبر المشاهد الصادمة نقطة جذب إعلامي، فالإثارة الإعلامية من خلال الاستخدام المفرط لمشاهد العنف من طرق القتل وحالات الانتحار وحوارات الموت التي عبرت عن مأسي الحياة عبرت عن مواقف صادمة لجذب الاهتمام الإعلامي، واستغلت المنصات الاجتماعية ومنصة البث هذه الحالة العالمية في ارتفاع نسب المشاهدة لتشكيل الصدمة الثقافية من خلال تقديم رمزيات منها اجتماعية مثل إلغاء الطبقية وتوحيد الهوية وكان واضحًا من البدلات الموحّدة حيث تساوي الجميع وهم يلعبون هذه اللعبة، وكما جاد في الحوارات هنا يتسنى للاعبين أن يلعبوا لعبة عادلة وفق الشروط نفسها، هؤلاء الأشخاص قد عانوا من عدم المساواة والتمييز في العالم. ونحن نمنحهم الفرصة الأخيرة ليقاتلوا بعدل ويربحون، كذلك تحويل ألعاب الأطفال إلى أدوات للعنف، وتكريس المراقبة والتعقب ففي كل زاوية من مسلسل لعبة الحبار كاميرا للترصد وشاشة للمراقبة حيث تنعكس ثقافة المراقبة التي توفرها جميع منصات التواصل الاجتماعي أو كل مستخدم دخل شبكة الإنترنت من خلال بريده الإلكتروني، وهي اللغة السائدة حتى قبل الدخول في اللعبة، فاختيار اللاعبين يتم بدقة شديدة، السمسار الذي يستقطب اللاعبين يسرد المعلومات الشخصية من الاسم، العمر، المستوى التعليمي، الحالة الاجتماعية، الوظيفة الحالية والسابقة، والديون، حيث يتضح التحكم والسيطرة والمراقبة دقة الاختيار والدور الفائق للسجلات والارشفة، والمعلومات، مع ربطها رقميًا من خلال شريحة للتعرف عليه ومن ثم إخفاء هويته ومنحة رقمًا تعريفيًا للسيطرة عليه عبر الرقابة الدائمة فـ«التحكم الجيد بالفرد يتجسد عبر الرقابة الدائمة لنشاطاته وسير عمله، من خلال ضبط كل فعل من أفعاله”.
كما انتقد “لعبة الحبار” النظام الرأسمالي من خلال نقطة كيف يتحكم المال في مصير الجميع، لا بل يستخدم الأغنياء الفقراء كمصدر للتسلية ويقتل الفقراء بعضهم للحصول على المال حتى تتسلى الطبقة الغنية، وهذا إشارة على الفجوة الطبقية ما بين الأغنياء والفقراء.
في لعبة الحبار الرمزية النفسية كانت حاضرة في الأجزاء الثلاث فكل فائز في جولة اللعب خسر إنسانيته للفوز، وفي هذه اللعبة الجماعية لا مكان للثقة في أي شريك أو منافس فلا مكان في لعبة الحبار للصداقة
السيطرة الإعلامية
سيطر المسلسل على التفاعل العالمي من خلال تحويل “اللعبة إلى “لعبة للعنف” من خلال استخدام عناصر وآليات صممت ألعابها في سياقات غير مرتبطة بالتسلية، بل ارتبطت بالعنف، وكان واضحًا في المسلسل تحويل القتل إلى لعبة لخلق محتوى مثير إعلاميًا، وذلك ضمن مسارات يُعاد تشكيل الجمهور وفقها تدريجيًا ليقبل بالعنف من خلال المحتوى الترفيهي، ولهذا جاء الانتشار الإعلامي من خلال طبيعة الجمهور وحاجاته ومشاكله ومنها واستغلال موضوعات “القروض، الغلاء، التهميش” التي يعاني منها الكثير في عالمنا اليوم، وبالتالي كانوا ضمن دوائر المسلسل النفسية التي كانت من أسباب النجاح لهذا المسلسل، فمن خلال التأطير في عمليات القتل أو الحوارات التي دفعت اللاعبين للانتحار تم القبول بالقتل لأن اللعبة تحكمها قواعد وقوانين صارمة وعادلة فأصبحت الجريمة مقبولة طالما لها “قواعد”. كما عمد مسلسل الحبر ضمن السياق النفسي وتكرار مشاهد من نوع اتحاد الأصدقاء ثم التفكك، حالات الانتحار، الحديث عن العائلة والمستقبل، تكاليف المعيشة، الأسرة والأبناء إلى توليد استجابة من قبل المشاهد، وبالتالي إشعال الفضول لخلق تفاعل رقمي ذكي.
مرر المسلسل رسائل صادمة فتظهر الألوان الزاهية والموسيقى البريئة ثم المشاهد المفاجئة للقتل التي كانت “سهلة المشاهدة” في بدايات المسلسل لترتفع قساوتها تدريجيًا وتكون أكثر دموية بعد الانغماس في المشاهدة، فالجمهور ينغمس مع اللاعبين في مسلسل الحبار ضمن ثنائية البقاء / الفناء والترقب للنجاة أو الموت، ويتماهى مع شخصيات المسلسل لتشكيل حالة من الإدمان، وفي كل حلقة منحنى جديد تحث الدماغ على طلب المزيد من الناجين أو الموتى.
ومع التأطير الرمزي للعنف والتبلد حيال المشاهد العنيفة عاش الجمهور تحديات المسلسل كواقع ساهم في إيصال رسائلها الألوان، الموسيقى الطفولية كسرديات بصرية، وطرح تساؤلات وجودية وحوارات حول الحياة، الطبقية، النجاة، المستقبل، الأسرة، والتخلص من المنافسين، أضعفت الحد الفاصل ما بين الحياة الواقعية والحياة الافتراضية.
الفكر والمال يصنعان التأثير
بلغت تكلفة إنتاج الموسم الأول من لعبة الحبار 21.4 مليون دولار، أي حوالي 2.4 مليون دولار لكل حلقة، شاهده أكثر من 142 مليون أسرة حول العالم خلال 28 يومًا (1.65 مليار ساعة مشاهدة)، وتشير تقارير أن تكلفة إنتاج الموسم الثاني 73 مليون دولار، وحقق مشاهدات قياسية خلال أول 4 أيام بلغت 68 مليون “مشاهدة” و480 مليون ساعة مشاهدة في الأسبوع الأول، وفي 28 يومًا 152.5 مليون مشاهدة بحسابات Netflix وحسب مصادر فإن تكلفة إنتاج الجزء الثاني والثالث 750 مليون دولار تقريبًا صدر الثالث في 27 يونيو 2025 وحصد 60.1 مليون مشاهدة خلال أول 3 أيام فقط من عرضه.
يبلغ حجم سوق المحتوى الثقافي الكوري ما يزيد عن 60 مليار دولار، وتُقدر صادرات الثقافة الكورية بأكثر من 12.4 مليار دولار سنوياً، وبحسب تقرير مؤسسة Hyundai Research Institut، فإن كل زيادة 1% في الطلب على المسلسلات الكورية تؤدي إلى نمو 0.2% في صادرات المنتجات الاستهلاكية الكورية، وزيادة 0.6% في السياحة الوافدة، مع ارتفاع في أسهم شركات الإنتاج والترفيه بنسبة فورية قد تصل من 10% إلى 30% بعد عرض كل عمل ناجح، وارتفعت معدلات الاشتراك في “نتفليكس” آسيا بنسبة تجاوزت 23%، وقفزت مبيعات ملابس اللاعبين والأدوات والإكسسوارات المرتبطة بالمسلسل 700% عالمياً، وسجلت منصات تعليم اللغة الكورية قفزة في عدد المتعلمين الجدد 76%.
لسنا أحصنة نحن بشر
الرسائل المتكررة حول الطبقية والبقاء عبر القتل تسهم في غرس قيم اللاأخلاقية كوسيلة للنجاة، و لعبة الحبار ليس الأول من نوعه ولا الأخير بالتأكيد، فالرسالة التي تسعى مثل هذه المسلسلات والأفلام للتعبير عنها أننا نعيش التجربة الواقعية اليومية (الشارع، العائلة، العمل) بطريقة محسوسة ومباشرة من خلال ما صممه لنا الإعلام، يختار الزاوية ويصنع لنا نماذج للحياة ويرسم أشكال التفاعل معها من خلال التماهي مع الأخيار والأشرار فلا مكان لحرية الاختيار بشكلها المتعارف عليه حيث يخلق الإعلام البيئة التي نعيش فيها، ويُعيد تشكيل وعينا دون أن نشعر، فالإعلام يختار ويقرر ما نراه وكيف نراه، وفي النهاية يجعلنا نعتقد أننا رأيناه كما هو وهو ما يعبر عنه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار: “نحن لم نعد نعيش الواقع… بل نسخة منه أكثر إقناعًا من الأصل”، فكل إعلام هو واقع بديل… ومن لا يدرك ذلك، سيعيش في واقع لم يختَره”.