إعلام رقميالإعلام الإسرائيلي

السرديات وصناعة الوعي.. الكلمات سلاح إسرائيل في الحرب

“في وسعنا أن نُخبر بما نشاء عن براءة أهدافنا، ونلطِّف الكلمات وندسّ العسل فيها لكي نجعلها مستساغة”

كتب مؤسس علم النفس الجماهيري غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير: “إن الجماهير يبهر مخيلتها ويثيرها الاستخدام الذكي والصائب للكلمات والعبارات المناسبة، فإذا ما استخدمناها بشكل فني لبق فإنها تستطيع عندئذ أن تمتلك القوة السرية. فهي تثير في روح الجماهير العديدة أقوى أنواع الإعصار، ولكنها تعرف أيضًا كيف تهدئها. والكلمات التي يصعب تحديد معانيها بشكل دقيق هي التي تمتلك أحيانًا أكبر قدرة على التأثير والفعل”.
وفق هذا المنهج تعمل آلة المصطلحات الإسرائيلية على إنتاج عدد كبير من المصطلحات لتغطية المستجدات وفق ما تقتضيه المتغيرات والمواقف، وتغطى سياقات مختلفة سياسية، تاريخية، جغرافية، أمنية، اقتصادية، وثقافية، واستخدام السرديات اللغوية في الحرب على فلسطين ليس وليد اليوم أو كما يسميه البعض نتائج حرب أكتوبر ٢٠٢٣ التي امتدت لعامين، بل هو منذ نشوء إسرائيل لترسيخ صورتها عن نفسها كضحية.
الإشكالية الأساسية تكمن في تعريف المصطلح ودلالات استخدامه لما له من دور أساسي في التنافس على السيطرة الإعلامية وتوجيه الرأي العام، وفي الحروب الإعلامية يؤدى اختلاف فهم المصطلحات إلى اختلاف كبير في فهم الواقع بحسب متلقي المصطلح، وبالتالي يحدث التفاعل بحسب المفهوم الذي تلقاه المستقبل، وقد مرت القضية الفلسطينية منذ إعلان تأسيس إسرائيل وصولاً إلى طوفان الأقصى بالعديد من المصطلحات التي انتشرت ضمن السرديات الإعلامية السياسية الإسرائيلية واستعمالها المتواصل والمتكرر ضمن السياق الإعلامي العربي والعالمي.
السردية التاريخية للمصطلحات الإعلامية
على مستوى التأسيس التاريخي لبداية المشروع الصهيوني بدأت هندسة القبول للمصطلح الإسرائيلي بطبقات متعددة لتسطيح الوعي العالمي منذ مؤتمر بازل بسويسرا 1897وانتشرت مصطلحات من نوع “الوطن”، “الوطن القومي”، “الهجرة” ” إقامة الدولة”، وصولًا إلى مصطلح “الدولة اليهودية” وتم خلال هذه المرحلة بناء سرديات حاربت الفلسطينيين؛ لا بل تم الاشارة إلى الفلسطينيين باعتبارهم “مجتمعات غير يهودية” تعيش في أرضٍ ليست لهم، بدلًا من الإشارة إليهم على أنهم سُكان أصليون يعيشون على أرضهم، ووصفوا بمصطلحات شملت: “بدائيون”، “مخادعون”، ” منكرون الحقّ اليهودي”، ومستندين إلى سردية متخيّلة تتضمّن مصطلحات “استرداد” أو “استعادة الأرض”، “أرض الميعاد”، “الحق اليهودي”، “السكان الأصليين” “الملكية التاريخية”، وهي استنادًا إلى ادعاءات من الكتاب المقدس انتشرت مع خطاب حركة المستوطنين الأميركيين لتصوير أحقية اليهود في أرض فلسطين من خلال ربط الجانب الديني بالتاريخي لبناء سردية إعلامية وصفت اليهود “بالرواد” القادمين “لتجفيف المستنقعات”.
سردية المصطلحات لم تتوقف وأخذت طبقات متعددة فمنذ احتلال فلسطين ١٩٤٨ صك الإعلام الإسرائيلي مصطلح “قانون العودة” لعودة اليهود إلى فلسطين المحتلة، و”المتسللين” لوصف العائدين إلى الأراضي التي احتلتها إسرائيل العام ١٩٤٨، وقانون “أملاك الغائبين” لسرقة ممتلكات الفلسطينيين الذي أجبروا على الهجرة خلال أحداث حرب ١٩٤٨ وما قبلها.
من السرديات المهمة التي تسللت إلى الإعلام العالمي ونالت قبول سياسي واحتفاء عربي من قبل الخطاب المتصهين مسألتي المحرقة، وقد أشارت جاكلين روز في كتابها مسألة صهيون، أن المحرقة لم تكن مستخدمة في الخطاب السياسي لإسرائيل قبل العام 1967، ومصطلح “الحق في الوجود” وهو ما قاله مناحيم بيغن للكنيست عند توليه رئاسة الوزراء العام 1977: “أود أن أعلن أن حكومة إسرائيل لن تطلب من أي دولة، سواء كانت قريبة أو بعيدة، قوية أو صغيرة، الاعتراف بحقنا في الوجود”.
من الطبقات المهمة في السردية الإعلامية الخلط بين اليهودية والصهيونية، ورفع سيف الاتهام بمعاداة السامية لكل من ينتقد الصهيونية على اعتبار أنه معاد للسامية، وقال الحاخام برانت روزين، في مقال نشرته صحيفة هآرتس 2016، إن “معاداة الصهيونية ليست “شكلًا من أشكال التمييز” وليست معاداة للسامية …، طمس التمييز بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية يشوش تعريف معاداة السامية إلى درجة أنها تصبح بلا معنى”.
نشوء مصطلح الإرهاب الفلسطيني
من الطبقات المهمة في تغولت في الخطاب الإعلامي الإسرائيلي مصطلح “الانتفاضة” والّتي استخدمها الفلسطينيّون ١٩٨٧ لوصف ثورتهم السّلميّة، وترجمها إسرائيل لإبادة اليهود، وبعد اتفاقات أوسلو 1993 وبداية عملية السلام، تم تصوير المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي بأنها إرهاب، مع أن البروتوكول الأول لاتفاقية جنيف، الذي يتعلق بوضع المدنيين في النزاعات المسلحة ضد السيطرة الاستعمارية والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية… في ممارسة تقرير المصير، ويؤكد على حق الشعوب المُحتلة في مقاومة الاحتلال وحمل السلاح في مواجهة الطرف المعتدي، ومع ذلك صوَّرت إسرائيل أشكال المقاومة الفلسطينية كافة على أنها أنشطة إرهابية وينطبق هذا المصطلح على المواجهات غير المتكافئة بين المدنيين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي، وشملت أشكال المقاومة المقاطعة الاقتصادية، وقد اكتسبت هذه الكلمة المزيد من الاهتمام بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث اعتبرت إسرائيل قمعها للفلسطينيين بمثابة مساهمة في الحرب على الإرهاب.
حرب غزة ٢٠٢٣ – ٢٠٢٥
شكلت حرب غزة صراعًا لخطاب السرديات بين طرفي الصراع ولكل مصطلح دلالته الخاصة حسب الطرف المستخدم له، وضمن حرب السرديات وصياغة الوعي الجمعي خلال الحرب على غزة عمد الجانب الإسرائيلي إلى الترويج لمجموعة من المصطلحات الأساسية والتي منها.

  • “حق الدفاع عن النفس” مصطلح ردده بنيامين نتنياهو وكذلك رؤساء الدول الغربية في التأكيد على أن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها كونها “ضحية” من منطلق إنساني.
  • “محتجزين” مصطلح روّجت له إسرائيل لمن تحتجزهم المقاومة الفلسطينية في غزة بدلًا من “رهائن” ولهذه الكلمة في الحروب دلالة على إمكانية استخدامهم كدروع بشرية وبالتالي تعريضهم للموت.
  • “نقل الفلسطينيين”، “إعادة تمركز”، مصطلح لتجميل واقع ما يحصل من عمليات التهجير القسري ضد أهالي قطاع غزة لأنها تُصنّف جريمة في القانون الدولي.
  • “التهجير”، “التطهير”، مصطلح تم تداوله مع بداية الحرب واكتسب زخماً إضافياً عقب طرح الرئيس الأميركي دونالد ترمب مقترحه للسيطرة على قطاع غزة وتحويله إلى ريفييرا الشرق الأوسط بعد تهجير سكانه، وداعياً مصر والأردن لاستقبال الفلسطينيين من القطاع من أجل إحلال السلام في الشرق الأوسط.
  • “النزاع” إن أخطر ما ميز الحرب على غزة ٢٠٢٣، التلاعب بالسرديات والحقوق الأساسية، واختزال الصراع بمجموعة “إرهابية” فلسطينية داخل جزء من فلسطين “غزة”، فبعد أن كان الصراع عربي إسرائيلي، تحول الصراع إلى نزاع فلسطيني إسرائيلي، ثم اختزل بنزاع حماس والجهاد الإسلامي ضد إسرائيل وهو خطوة لتحجيم أطراف الصراع، واختزاله في طرف فلسطيني وحيد، وهو ينسجم مع الصورة التي تسعى إسرائيل لتثبيتها أنها ضحية تستوجب التعاطف العالمي، وفي المقابل انتشار مكثف لعبارات من نوع “حق جيش الدفاع الإسرائيلي المشروع في الدفاع عن النفس”، ويمكن تتبع ذلك من خلال مراقبة منشورات وسائل التواصل الاجتماعي ومقابلات الدبلوماسيين الإسرائيليين في الفضائيات حول العالم، وللتوضيح “الصراع” يكون بين طرفين على عداء مطلق بمختلف المستويات ولا تجمعهما أيّ علاقات أو مفاوضات مباشرة، و”النزاع” بين طرفين يختلفان على ملف معيّن لكن تجمعهما علاقات طبيعية، ورافقه مصطلح الحرب بين إسرائيل وحماس.
  • “الحرب على الإرهاب”، وجاء ضمن سردية ربط حماس بداعش، وأن الجيش الإسرائيلي يقوم بجهود دفاعية لمحاربة التنظيمات الإسلامية المتطرفة.
  • “عملية” مصطلح لوصف الرد الإسرائيلي على طوفان الأقصى وحملت اسم “السيوف الحديدية”، ومصطلح “عملية” لتكون إسرائيل في موقف الدفاع عن النفس وأحقية الردّ على الهجوم متناسين أن إسرائيل هي من احتلت فلسطين منذ العام ١٩٤٨.
  • مصطلحات “التطهير و “الجحيم” وردت على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الذي هدَّد بجحيم في الشرق الأوسط إذا لم يُطلَق سراح الأسرى قبل توليه مهام منصبه رئيساً للولايات المتحدة.
  • “الهدوء المستدام” مصطلح جاء بديلاً لمصطلح “وقف إطلاق النار” ولا يعني بالضرورة انعدام العمليات العسكرية فهو مختلف عن وقف إطلاق النار.
  • “مناطق أمنة” وشملت كذلك “نقل السّكّان”، “عمليّات الإخلاء” وهو مصطلح يشمل المناطق التي تم تسويتها بالأرض بالقنابل وأصبحت لا تصلح للسكن ويمكن مراقبتها وضمن هذه المناطق التي ادعى الجيش الإسرائيلي أنها مناطق أمنة حدثت مجازر مروعة بحق المدنيين الفلسطينيين.
    وختامًا، حرب اللّغة لا تقلُّ أهميّة عن الحروب العسكريّة من حيث القدرة على التّدمير، وهم يريدون إسكات الجميع، وفرض القبول للسردية الإسرائيلية، وقد قال رئيس منظمة إرغون في مقالة كتبها العام 1923: “في وسعنا أن نُخبر بما نشاء عن براءة أهدافنا، ونلطِّف الكلمات وندسّ العسل فيها لكي نجعلها مستساغة”، لذلك نحن مدعوون لتدقيق المصطلحات وبناء مفهومنا الخاص الذي يتوافق مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى