الإعلام الإسرائيلي

تفكيك الأكاذيب (2).. اختراق الوعي في السردية الإعلامية الصهيونية

جاء في الكوميديا اﻹلهية لدانتي: ‏”اﻷماكن اﻷسخن في الجحيم محجوزة لأولئك الذين يظهر حيادهم أثناء اﻷزمات”!

في حرب بحجم حرب غزة الممتدة إلى اليوم، يصعب على العاقل صاحب الرسالة أن يكون محايداً، فمازال عددًا من الشهداء تحت الركام وفي الطرقات لا تستطيع طواقم الإسعاف والدفاع المدني الوصول إليهم، وارتفاع مستمر لحصيلة حرب الإبادة الصهيونية بحق أهل غزة مع أكثر من 48 ألف شهيد، وأكثر من 111 ألف إصابة، وبالنسبة إلى الاضرار التي لحقت بالبنية التحتية المادية في غزة فقد قدرها التقرير تشير تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن الحرب قد محت “أكثر من 69 عاماً من التقدم في غزة, وأن إصلاح الأضرار المباشرة التي لحقت بالبنية التحتية في المنطقة سيكلف أكثر من 18,5 مليار دولار وخلف هذه الأرقام توجد قصة إنسانية نادراً ما تجد منبراً أو صوتا ينقلها.

الإعلام قبل الدولة

تأسس الإعلام الصهيوني قبل تأسيس الكيان العام 1948؛ ويُعد هرتزل منظم المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا عام 1879 أول من نَظَرٍ لفكرة الدولة اليهودية، وتفرغ للكتابة والترويج لها عبر وسائل الإعلام، وجلب موافقات دولية من أجل هجرة اليهود إلى فلسطين؛ وفي ذات الوقت أصدر كتابه “دولة اليهود… محاولة لحل عصري للمسألة اليهودية”. حيث أدرك الفريق المؤسس للكيان الصهيوني أهمية أدبيات الهندسة الإعلامية؛ فأنشأت الحركة الصهيونية إذاعة موجهة لليهود قبل العام 1948، وطبعت 14صحيفة بينها 4 ناطقة بالعربية، وعلى سبيل المثال صدرت صحيفة هآرتس 1919، صدرت صحيفة يديعوت أحرونوت 1939، وصحيفة معاريف 1948، وشكل أول رئيس وزراء للكيان “ديفيد بن غوريون” هيئة رؤساء تحرير الصحف، وبين خلال الاجتماع الأول للهيئة عن التوجيه الاستراتيجي، فقال: “يجب علينا أن نزن أقوالنا، ولا نعطي العدو معلومات، ولا نزرع الفتنة والفوضى في شعبنا”.

تأسيس “هاسبارا”

اختراق الوعي الفلسطيني والعربي والتأثير عليهما؛ وبناء صورة ذهنية إيجابية لها خارج الأوساط اليهودية يُعَدُّ من الأهداف الرئيسة للإعلام الصهيوني، وعراب هذه الفكرة ناحوم سوكولوف هو أحد زعماء الحركة الصهيونية، كان في شبابه من بين اليهود الرافضين للفكرة الصهيونية، لكنه غيَّر موقفه بعد حضوره المؤتمر الصهيوني الأول، الذي عقده هرتزل في مدينة بازل بسويسرا، وصار واحدًا من أشد المؤيدين للفكرة والمدافعين عنها، وقدّم ما هو أهم على مستوى الدعاية وصناعة الصورة الذهنية، سواء عبر كتابه الأشهر تاريخ الصهيونية، الذي أصدره 1917، أو عبر كتاباته باللغة العبرية، التي ساهمت في تطويرها ومنحها صبغة عصرية.
وأدخل “سوكولوف” مصطلح “هاسبارا” وتعني في اللغة العبرية “الشرح” أو “التوضيح”، وهي المرادف العبري للمصطلح اللاتيني “بروباغندا”، وعلى يدي “سوكولوف” صارت استراتيجية إعلامية اعتمدت عليها الحركة الصهيونية من أجل بناء صورة ذهنية إيجابية لها خارج الأوساط اليهودية، وباتت استراتيجية متكاملة استخدمت وسائل الإعلام بمختلف صورها لتبييض صورة الكيان الصهيوني قبل وبعد إعلان تأسيسها.
وتقوم استراتيجية “هاسبارا” على عدّة عناصر، ومنها:

  1. الترويج لفكرة أن الكيان الصهيوني ضحية بريئة تعيش في وسط مليء بالكراهية.
  2. الترويج لفكرة أن معارضة الكيان الصهيوني تنبع من معاداة اليهود كديانة، مع تعظيم الاستفادة من “الاضطهاد الذي عاشه اليهود في أوروبا” وتصديره على الدوام لخدمة هذا التوجه.
  3. الترويج لفكرة أن أي نشاط معارض للكيان الصهيوني هو نشاط معادٍ للسامية.
  4. الترويج لفكرة “اليهودي الكاره لنفسه” ضد اليهود المعارضين للكيان الصهيوني وأفعاله.
    ومن هذه المنطلقات، تحوّلت فكرة “هاسبارا” إلى استراتيجية متكاملة وخطط عمل تنفذها مؤسسات صحفية وإعلامية ومراكز بحثية داخل الكيان الصهيوني وخارجه، ومكّنت الكيان الصهيوني من كسب مساحات تأييد واسعة، في المجتمعات الغربية، ونالت سردية “هاسبارا” هزائم مختلفة أولها بعد الهجوم الصهيوني على مدرسة بحر البقر المصرية 1970، حين قتلت الغارات الصهيونية 30 طفلًا وأصابت نحو 50 آخرين.
    ونجح الإعلام الصهيوني في كشف الكثير من القضايا التي تمس المنطقة العربية كونه نتاج مجتمع مختلف وعمل على كسب القلوب والعقول في المنطقة فهو يعمل ضمن سياسات واضحة ضد الفلسطينيين والعرب؛ إلا أنه مارس سياسية التعتيم المطلق على الجمهور الصهيوني داخل فلسطين المحتلة فهو يبقى مهما اختلفت أطيافه جزء من الدولة اليهودية بعقيدتها الصهيونية؛ فيتجند أثناء الحروب لدعم جيشه ولا يرحم صناع السياسة ويحول كل معركة إلى معركة رابحة.
    وهذا ما أشار له البروفيسور إيدان لاندو، أستاذ اللغويات بجامعة تل أبيب ومؤسس المدونة السياسية “لا تموت أحمق”، وأحد الأصوات البارزة في كشف الحقائق وسط الدعاية الرسمية الصهيونية الذي كشف، ضمن تقرير نشره موقع “أسخن مكان في الجحيم”، العبري، عن وجود تضليل منهجي تمارسه المؤسسة العسكرية الصهيونية لإخفاء فشلها وإعادة تشكيل الوعي العام بما يتناسب مع مصالحها؛ وتكشف رؤية البروفيسور “إيدان لاندو”، عن صورة مغايرة تمامًا لما يُروج له رسميًا داخل الكيان الصهيوني، من التلاعب بالأرقام إلى استغلال الإعلام، لتتضح معالم حرب لم تحقق أهدافها، بل كرست واقعًا أكثر تعقيدًا.
    ختاماً الهاسبارا الصهيونية في أضعف حالتها اليوم؛ فما بين صورةً لجندي صهيوني، التقطت له أثناء حرب في غزة يونيو 2024 وهو يرتدي “شارة خريطة” إسرائيل الكبرى على زيّه العسكري؛ وتقبيل الأسير الصهيوني “عومر شيم” رأس مقاتل فلسطيني “سواء كانت حقيقة أم مفتعلة” تراخت جداً الدعاية الإسرائيلية بشكل واضح، فكيدوا كيدكم وموتوا بغيضكم..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى