مِن يُرَاقِب مِن؟

مع الاستخدام الشرس للمعلومات الخاصة بالمستخدمين من قبل الشركات المتخصصة في مختلف المجالات؛ أصبحت قضية سياسية الخصوصية للمستخدمين مجال حديث واسع، ولتقريب الفكرة استعرض في البداية العلاقة ما بين المراقبة والحرية الفردية، فيقول الفيلسوف الفرنسي “ميشيل فوكو” في كتابه “المراقبة والمعاقبة”، إن يقين السجين بمراقبته طوال الوقت يجعله حاملًا للسلطة داخله، أي أن مَن يمارس السلطة ليس مهمًّا بشخصه، فأي فرد يستطيع أداء دور المراقب حتى وإن جاء صدفة، فتتولد عبودية لا تحتاج إلى القوة لإكراه المسجون على السلوك وفقًا لتعليمات مفروضة عليه، بل تصبح العبودية جزءًا من السلوك الاعتيادي له. ويستطيع المراقِب كما يرى ” فوكو” وبصورة دائمة تغيير مسلك المراقَبين، عبر متابعتهم واكتساب المعرفة التي تجعل سلطته مستقرة.
وفي عالم اليوم بدأت الهواتف المحمولة تسمح للتطبيقات بالعمل في الخلفية، ما يتيح لها تتبع سلوك المستخدمين ومواقعهم، وأتاحت هذه الخاصية لمواقع التواصل جمع معلومات عن سلوكيات المستخدمين، وكذلك عن الأماكن التي يذهبون إليها، لاستهدافهم بإعلانات معينة، وتظهر للشخص فور الحديث عن منتج أو شخص أو دخوله منطقة جغرافية محددة، وهذه البيانات تباع للمعلنين بشكل مباشر أو غير مباشر.
واليوم المعلومات الشخصية هي المادة الخام لاقتصاد المعرفة والحصول على مثل هذه المعلومات يحتل موقعًا مركزيًّا في الأعمال التجارية لشركات التكنولوجيا وخاصة في بيع التجزئة والرعاية الصحية والترفيه ووسائل الإعلام والتمويل والتأمين، وتصبح بياناتنا الشخصية قوة هائلة عند جمعها معًا، فسجلات تحركاتنا تساعدنا على التخطيط العمراني، وتُمكِّن سجلاتنا المالية الشرطة من كشف عمليات غسيل الأموال ومنعها. كذلك، وتساعد التغريدات والمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي الباحثين على فهم الكيفية التي يعمل بها المجتمع، وهناك كثير من الاستخدامات المثيرة للاهتمام للبيانات الشخصية فهي تلد معارف جديدة تحسن من حياتنا.
وفي العصر الرقمي من واجب الحكومات حماية الخصوصية، ولكل إنسان الحق في امتلاك مجال خاص دون تدخل أو مراقبة من دون ضرورة من الدولة أو جهات أخرى، فالتوازن السليم مطلوب ما بين الشواغل العامة والأمنية المشروعة، وحق الإنسان الأساسي في الخصوصية.
ومع تأكيدات الكثير من الدول والهيئات والمنظمات تخزين المعلومات المُصرح بها تحت حالات استثنائية ومحددة، ومصحوبة باحتياطات قانونية مناسبة وإشراف مستقل، إلا أن الكثير من دول الاتحاد الأوروبي التي تتغنى بمبادئ الديمقراطية والحريات تبنت اتجاهاً واضحاً لتوطيد عمليات المراقبة الجماعية؛ فتبنت فرنسا قانونًا مثيرًا للجدل بشأن المراقبة، يُتيح التدخل في الحياة الشخصية للأفراد المشتبه بهم، ومن يتواصل أو يسكن أو يعمل معهم، دون إذن قضائي مُسبق. واعتمد البرلمان الألماني قانونًا يُلزم شركات الاتصالات ومزودي خدمة الإنترنت بإمكانية استعادة البيانات حتى 10 أسابيع. وزادت الحكومة البريطانية صلاحيات السلطات لتنفيذ الرقابة الجماعية وجمع المعلومات بكميات كبيرة. وتناقش النمسا مسوَّدة قانون تسمح لوكالة استخبارات جديدة بالتعامل مع المراقبة الخارجية المنخفضة وجمع وتخزين بيانات التواصل حتى ست سنوات. وشَرَّعت هولندا مراقبة جميع وسائل الاتصال بهدف جمع البيانات على الإنترنت، دون تمييز حتى للأفراد غير المشتبه بهم. وأدخلت فنلندا تعديلات في الدستور من أجل إضعاف حماية الخصوصية، وتسهيل عمل الأجهزة العسكرية والاستخباراتية وتوسيع صلاحياتها، بهدف المراقبة الجماعية. وفي عالمنا العربي يوجد حالات فردية لدول أعلنت عن حماية الخصوصية الفردية للمستخدم؛ إلا أن الواقع يؤكد لا احترام أو اطار قانوني يحترم المستخدم العربي ويحافظ على خصوصية بياناته.
إن فقدان الخصوصية يلحق الضرر بالمستخدم نتيجة كشف المعلومات الحساسة، فهناك كثير من التفاصيل الحميمة لحياة كل واحد منا في قوائم السجلات الطبية والمالية والأمنية والرعاية الاجتماعية وحتى المواقع التي زرتها على شبكة الإنترنت، ومجموعة متنوعة من المصادر الأخرى، ويمكن أن يترك كشف هذه المعلومات أشخاصًا كثيرين عرضةً لانتهاكات عديدة.
إن فقدان السيطرة على المعلومات الشخصية هو إلى حدٍّ ما فقدان للسيطرة على حياتا وحريتنا، وبالتالي فإن الخصوصية ضرورية لحماية حقوق جوهرية أخرى، حتى لو لم تكن هي في ذاتها حقًّا جوهريًّا.