تفكيك الأكاذيب (5) الترجمة من اللغة العبرية إلى العربية
الاستراتيجية الإعلامية “الإسرائيلية” قامت ومازالت قائمة على التوجه إلى الجمهور المستهدف بلغته؛ وهز ثقته بوسائل إعلامه الوطنية، وتكريس صورة نمطية تعكس حالة التفوق لدى “الإسرائيلي” مقابل الضعف والكذب عند الطرف العربي.
عند الحديث عن إعادة إحياء اللغة العبرية والترجمة إلى اللغة العربية، يمكن بيان مجموعة من النقاط التي ساهمت في انتشار الترجمة من العبرية إلى العربية، حيث يؤرخ لأول كتاب مترجم من اللغة العبرية خارج السياق الديني رواية لـ “أفرهام مابو” (1808 – 1867)، التي ترجمها “سـليم الـداوودي” سكرتير المحكمة اليهودية في القاهرة 1899، وقد حملت الترجمة مغالطات؛ ولكنها كانت رسالة لليهود في العالم أن “اللغة العبرية مازالت حية!!”.
العامل الأساسي الذي ساهم في انتشار الترجمة كان مع احتلال فلسطين ووجود عرب ضمن المناطق المحتلة في فلسطين الذين خضعوا لحكم عسكري صارم، ومع تأسيس “الدولة” ومشاريع إعادة إحياء اللغة العبرية، بادرت “إسرائيل” إلى انتقاء وترجمة أعمال باللغة العبرية إلى اللغة العربية، لتكون واحدة من أدوات الدعاية المبكرة، ووسيلة لتشجيع المواطنين العرب القابعين تحت الاحتلال “الإسرائيلي” للاندماج في “الدولة”، حيث ساهم في عمليات الترجمة عدد من دور النشر التي كانت تحت إشراف وتمويل “الاحتلال” وأجهزته الأمنية ومنظومة الرقابة العسكرية، مما ساهم في هيمنة الثقافة اليهودية على الأقلية العربية.
ومع توقيع اتفاقيات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل” وشيوع الاتصالات، وتوقيع اتفاقيات التطبيع، وإقامة علاقات مع غالبية المحيط العربي توسعت الترجمة من اللغة العبرية بعد أن كانت منتشرة في الصحف والإذاعة انتشرت لتشمل المحطات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، بمختلف أنواعها وظهر متحدثين رسميين وناطقين باسم “إسرائيل”.
الإشكالية الرئيسية في الترجمة أن من يقوم بها أشبه بتجار شنطة يمتلكون مهارات لغوية وشبكة علاقات عامة تسمح لهم بالتواصل مع مختلف المنصات الإعلامية للنشر، ووفق هذا يمكن بيان الإشكاليات في التالي:
- عدم وجود مرجعية ومعايير واضحة تحدد أولويات الترجمة.
- عدم وجود لغة اصطلاحية مستخدمة أثناء الترجمة إلى اللغة العربية.
- اقتصار الترجمة على الشكل الإخباري؛ مع التركيز على “العواجل” في نقلّ الأخبار وتصريحات المسؤولين الإسرائيليين والتحالفات الحزبية التي تكشف خلفيات المجتمع الإسرائيلي.
- ترجمة “أخبار” فلسطينية وعربية من مصادر عبرية ليصبح الإعلام العبري هو المصدر الأكثر موثوقية في النشر.
- عدم خضوع الأخبار التي يتم ترجمتها للتنقيح والمراجعة مما يحقق لها الانتشار.
- انتشار المصطلح والدعاية الإسرائيلية في المجتمع العربي.
- تمرير رسائل إلى الجمهور العربي بسبب غياب الفهم الواضح للدور الذي يلعبه الإعلام “الإسرائيلي”.
- انتشار الشكوك حول القضايا الأساسية لتغول الدعاية “الإسرائيلية” وانتشارها في المجتمعات بفعل كثافة النشر على مختلف المنصات الرقيمة والتقليدية.
- شيوع المصطلح “الإسرائيلي” مع غياب كامل للمصطلح الفلسطيني وهو من كبرى المشاكل المنتشرة في الترجمة من اللغة العبرية.
- السماح للمحتوى المترجم من اللغة العبرية ببث الشائعات ونشرها في المجتمع والإعلام العربي.
- تفشي النزعة الانتقائية والتجارية، التي تنبع من الرغبة في الإبهار وإثارة الإعجاب؛ بهدف كسب المزيد من المتابعين وارتفاع المشاهدات.
وفي كل الحالات “إسرائيل” مستفيدة بشكل مباشر من الترجمة ونقل المحتوى من اللغة العبرية إلى اللغة العربية، ومن أوضح الأمثلة في الاستغلال “الإسرائيلي” لنشر المحتوى العبري إلى اللغة العربية؛ عندما طلب أحد الجنود في وحدة الاستخبارات التي كانت تتولى مهمة التحقيق مع الجنود الأسرى المصريين بعد حرب 1956 مقابلة ضابط “إسرائيلي”، وقال له: هناك كثير مـن الأكاذيب التي يبثها “صوت إسرائيل” باللغة العربية، مشيراً أنه اعتاد على سماعها هو وجنوده بأمر من قائد الكتيبة لمعرفة ماذا يقول الإعلام “الإسرائيلي”.
ومن هنا ولدت فكرة البرنامج الذي يعد من أهم وأكثر البرامج الإذاعية تأثيرًا، ويشكل النواة الأولى للدعاية “الإسرائيلية” الموجهة إلـى الناطقين بالعربية، وأطلق على البرنامج اسم “حقائق وأكاذيب”، وكان مكرسًا للاستماع إلى خطابات جمال عبدالناصر، وما يبثه صوت العرب من القاهرة من برامج وأخبار، ثم الرد عليه وتفنيدها. كان الهدف من البرنامج أبعد ما يكون عـن السعي وراء الحقيقة؛ بل ضرب مصداقية إذاعة صوت العرب، التي كانت تُعد من الإذاعات الأكثر استماعًا في تلك الفترة.
الاستراتيجية الإعلامية “الإسرائيلية” قامت ومازالت قائمة على التوجه إلى الجمهور المستهدف بلغته؛ وهز ثقته بوسائل إعلامه الوطنية، وتكريس صورة نمطية تعكس حالة التفوق لدى “الإسرائيلي” مقابل الضعف والكذب عند الطرف العربي.
ما يعمق مشكلة ترجمة المحتوي العبري الإخباري والبحث عن العواجل؛ أن الجهة القائمة على نشرها ضمن الإعلام “الإسرائيلي” هي من دوائر الاستخبارات وجهات العلاقات العامة في “إسرائيل” مما يجعل المحتوى وإن كان فيه بعض المصداقية؛ إلا أنه يحتوي على الكثير من التظليل والكذب؛ والاجتزاء، وما يعمق المشكلة الأخذ بهذه المواد وكأنها مسلمات مصدقة لا يمكن المساس بها، علمًا أن الكثير من التحليلات قائمة على معلومات مضللة لا أساس لها من الصحة، مما يجعل الإعلام “الإسرائيلي” مرجعًا للمواد الإعلامية حتى في الشأن الفلسطيني والعربي اليومي.
وختاماً؛ مع تغول المحتوى العبري المترجم في المنصات العربية، يمكن القول إن ما ينشر ضمن المحتوى العبري المترجم لا يخرج إلا من تسريبات أمنية تظهر وكأنها مجهولة المصدر، أو من إعلاميين وكتاب رأي “إسرائيليين” متوافقين تماماَ مع المؤسسة الأمنية لتحقيق أغراض معينة لبث الرعب في المجتمع الفلسطيني بشكل خاص والعربي بشكل عام، أو افتعال خلافات “فلسطينية – فلسطينية” أو “فلسطينية – عربية” أو الترويج لأخبار كاذبة من خلال تصريحات مفبركة عن قصد.